Monday, March 14, 2016

ليلة وفاة والدي رحمة الله عليه الذكرى الثانية عشر

ليلةً عصيبه وطويله قضيتها أصارع الدموع وأنا أقرأ لأول مره ما كتبت السنه الماضيه، وأضيف له الكثير.. فأعذروني إن أطلت أو دخلت في تفاصيل.. ولكني أسكب قلبي هنا في هذه الصفحه، فتحملون عني الليله، ما أحمله كل ليله من ليالي العشر السنين الماضيه.


"عشرة أعوام مضت على رحيلك يا أبي، والليله أسكب قلبي حروفاً وكلمات علها تُعين الحزن والدموع"


في مثل هذه الليله، ليلة الخامس عشر من مارس من العام ٢٠٠٤، انتقل والدي الشيخ القاضي أحمد زيد الرضي الى رحمة الله ورحابه الواسعه حيث فاضت روحه من مستشفى القصر العيني في قاهرة المعز. الأرض التي طالما أحبها والتي لم يغادر اليمن الا وكانت في طريقه. توفي رحمة الله عليه أثر نوبة ألتهاب رئوي حاد أستمرت أسبوعين كاملين، وهو لم يعاني من اي مشاكل في الصدر طول عمره.


دخلنا المستشفى في تاريخ ١٣ فبراير، بسبب ملاريا شديده اجتاحت جسده، قبل اسبوع من هذا التاريخ، فدخلنا المستشفى لنواجه هذه الحمى الخبيثه، وبعد مرور اسبوعين تقريباً شُفي منها واستعاد صحته كامله بفضل الله وجهود الاطباء والعنايه التمريضيه الرائعه في مستشفى القصر العيني جزاهم الله كل الخير. وفجأه جاءته نوبة سُعال شديده ومزعجه ومستمره، فجاء الاطباء والتمريض وقاموا بعمل اشعة اكس، وتم نقله الى العنايه المركزه على الفور. كان ذلك في ليلة الأثنين الأول من مارس ٢٠٠٤. 


كنت يومها جالساً الى جانبه في العنايه المركزه بأنتظار النتايج لنعرف ما سبب نوبة السُعال المفاجأه. فجاء الدكتور يبلغنا أنه ألتهاب حاد في الرئتين ووالدي رحمة الله عليه في كامل وعيه وحضوره الحسي، فقال لي وبكل ثقه وثبات "هذا سبب الخطيه" اي ان هذا هو سبب الموت لأن الله سبحانه وتعالى يسبب الاسباب.


بالرغم انه قد كان لنا اسبوعين كاملين في المستشفى وهو يصارع مرض الملاريا وكانت تنتابه نوبات حمى قاتله الا ان تلك الجمله هزت كياني بالفعل، فقلت له "مالك يا اباه انت والكلام هذا، اذكر الله يا أباه وصلي على النبي"، فنظر ألي بنفس الثبات والاطمئنان الذي لا استطيع الا ان اصفه بأنه اسطوري وقال "مالك انت يا ابني هذا أمر حتمي، وايحين قد وجعني صدري والا أثر عليا، اتصل لأمك واخوتك يجو كلهم في اقرب رحله ماحد داري ايحين عيجي امر الله.. اسمع الكلام الله يرضا عليك هذا سبب الخطيه".


لم استطع حتى ان أفتح فمي بأي، فمازال ذلك الزلزال يجتاحني بالفعل فالثقه والطمئنينه التي قال بها تلك الكلمات هزتني وهزت الكون من حولي. أجبرت نفسي على الأبتسام، واستجمعت قوتي لأقول "حاضر" واخرجت التلفون من جيبي وخرجت من عنده ليطمئن اني أُنفذ كلامه.


كانت أمي وأختي الكبيره وأختي الصغيره قادمات صباح اليوم الثاني بالفعل. كنت قد طلبت منهن الحضور في ذلك التاريخ لأنه كان يصادف يوم الخروج المتوقع وهو يوم الأثنين ١ مارس. خرجت من العنايه المركزه، وانا لم ابلغ احدا بعد في صنعاء بهذه التطورات المفاجأه. اتصلت لأمي، وبالطبع كانت بناتها الأثنتين عندها، واطمأنيت أنهُن على الموعد، وقلت لأمي سأكون في المطار ولم أقل لها بما حدث. وبعدها أتصلت لأخوتي، وللعميد خالد مطهر الرضي وأخبرتهم بما حدث من تطورات، وطلبت منهم عدم اخبار امي والبنات حتى لا تصعب عليهن الرحله، وطلبت منهم ايضا اخبار جميع اخوتي الاخرين. لأن اخوتي الذين ولدتهم امي من الرجال أثنين فقط هم طارق وعارف، بينما الذين رباهم أبي رحمه الله من الاولاد والبنات هم بالعشرات بالفعل وبدون مبالغه وهم احياء يرزقون الى يومنا هذا. بعد ذلك اتصلت لتوفيق الروسي والشيخ محمد مشلي الرضي واحمد محمد الرضي الاقربون من اخوتي لقلب ابي رحمه الله وقلبي من بعده، وتركت باقي المهمه لطارق وعارف والوالد العميد خالد.


وصلت والدتي والبنات في اليوم التالي، وخلال رحلة العوده للمستشفى خبرتهن بما حدث بهدوء وطمئنتهن بأنه في صحه جيده. الا أن القيامه قامت على رأسي ما أن وقعت انظارهن عليه وهو أسيراً لأجهزة التنفس. لم أجادل ولم أرد على أحد، وتركت لهن مهمة الاتصالات مع صنعاء وتهويل الامر، ومن حينها استمر تواصل توافد أسرتي الكبيره حتى وصل عدد الواصلين الى حوالي الثلاثين شخص بما في ذلك ثلاثه من اصحاب والدي القدامى ومرافقيه الذي لم يبرحوا جنبه من ايام الثوره وكانوا ومازالوا اقرب له من كل الناس في السراء والضراء. ومع ازدياد العدد زادت المشاكل والاقتراحات والمجادلات والصياح وكلاً يدلو بدلوه، صحيح انهم جميعاً كان قلبهم على والدهم المريض الا انه طبع الانسان ان يكون جزوعا. لم أشارك او اشترك في كل تلك المعارك. بل اني اعتزلت السكن واستأجرت غرفه بعيده عن السكن الجماعي وقريبه من المستشفى، وسكنتها انا واخي احمد محمد الرضي وابتعدنا عن المناوشات والمبارازات. كنت لا ازال تحت صدمة كلمته رحمة الله عليه بأن "هذا هو سبب الخطيه".

في يوم السبت ١٣ مارس، أشر بيده لأخي عارف اشارةً اخرى. معنى الاشاره ان "اليوم او غدا هو موعد السفر" وكان ذلك هو امر الله. جاء يوم الاحد ليلة الأثنين، وكنا جميعاً حاضرين نشرب الشاي في بوفية المستشفى. ولم يكن من احداً في العنايه الا الحاج أحمد الانسي رفيق درب ابي وابنه البار. احسست بقلق مفاجأ، قلت لصديقي الدكتور رامي اسحاق "هيا نطلع العنايه" استغرب وقال "ما نطلع نفعل ما بيخلوا احد يدخل ذلحين"، فقلت له "نطلع نجلس في الباب!" فقام وطلعنا وجلسنا فعلا في الباب على ارض الممر. خرج طبيب العنايه ومعه ثلاث من طاقم التمريض الى حيث نجلس ثم عادوا ثم خرجوا ثم عادوا ولم ننتبه بأنهم في المرتين لم يتجاوزوا الباب وكان يتراجعوا للداخل فور وقوع نظرهم عليّ.


فجأه، رأيت مدخل الممر يزدحم بتلك القبيله الصغيره التي حضرت من اليمن عن بكرة ابيها. جميعهم، رجالاً ونساء، دخلوا مرةً واحده ووجوههم متغيره والذهول يملؤها. لم يستطع طبيب العنايه اخباري فأنا في المستشفى منذ مده بنيت خلالها صداقات مع الجميع، وكنت بكل الفخر الذي في الدنيا، الأقرب لقلب أبي رحمة الله عليه، ولذلك لم يستطع اخباري، فنزل من الباب الخلفي الى حيث الجماعه جالسين ونقل لهم خبر وفاته.


تقدم مني ذلك الجمع، وانتابتني ريبه لدرجة أني لم اقوى على الوقوف. تقدم مني الشيخ ناصر الجايفي، رفيق درب والدي وصاحبه، وقال بصوت متحشرج، "قوم، رحمه الله، رحمه الله" 
لم اقوى على النهوض، وكذلك صديقي رامي اسحاق. ولا اعلم لليوم كيف دخلت الى داخل ممر العنايه وجلست على ارضها لا ادري ان كنت زحفت او مشيت! اتذكر أنني قمت بأتصال واحد لتوفيق الروسي، واتذكر انه قال "الله يسمعنا خير" قبل ان يقول "الو" كعادة المكالمات الهاتفيه، واتذكر اني قلت له "ابي مات رحمه الله" وقطعت المكالمه!


قبل ان تأتي والدي المنيه، كان منهكا ومتعباً بسبب ١٣ يوماً قضاها في العنايه، وكانت رؤيته وهو بتلك الحاله المتعبه تُدمي قلوب من يحبه، ولذلك جميعنا توقعنا بأن يكون منظره اكثر أيلاماً وقد فارقته الروح، فقعدنا جميعنا بالخارج ولم يدخل عليه احداً منا.


استجمع الحاج احمد الانسي قواه ودخل. ثم خرج، وجاء أليّ مباشره وكنت منزوياً في ركناً وحيداً على الارض. برك امامي وهو يبكي والابتسامه تملىء وجهه ويقول لي "قوم ابسر ابوك، قوم يا ابني والله لا تخرج وانت بتضحك صدقني"
قمت بدون تردد، فأنا لا أثق في احداً في هذه الدنيا كثقتي في اصحاب والدي رحمه الله ورفقاء دربه، دخلت عليه، فوجدته مسجياً. ووالله العظيم وجدت عليه ابتسامةً لم ارى اجمل منها في حياتي ابداً. قبلت جبينه وخديه ويديه وركبتيه وقدميه. وبعدها فقط فرت دموعي من ذلك السجن الذي منعها بسبب الصدمه. خرجت من الغرفه، يسندني الحاج احمد، واتذكر اني رأيت العميد خالد مطهر الرضي يدخل بعدي، واتذكر ان صديقي الدكتور رامي اسحاق هو من استلمني من الحاج احمد.


اتذكر ايضاً أني ورامي افترشنا الارض مجدداً، ولكني هذه المره كنت ابكي كما لم يبكي رجلاً من قبل في هذه الدنيا. أكاد اقسم بأنه لم يبكي رجلاً من قبل كما فعلت. واي الفخر بذلك فأنا ابكي خير رجال هذا الزمان على الاطلاق. ولم يكن البكاء عويلاً او صياحا لا والله المستعان. كان دموعاً منهمره كأنها سداً تهدمت اركانه، وصوت أزيز غريب يصعد من صدري كأنه يصعد من اغوار الارض حتى ان صديقي رامي نسي أمر والدي وقلق ان تصيبني أزمه انا ايضاً. وهأنا ذا أبكي اليوم مجدداً بحرقه وأنا اكتب ما اتذكره من تلك الليله وهذا الخطب الجلل في حياتي، لأشارك به الأحباب والأصحاب لأول مرةً على الأطلاق.


بعد مرور زمن لا يعلم مقداره الا الله، توقف ذلك الأزيز نسبياً لكن الدموع لم تتوقف. ولم اقم من مكاني، وانا ارى تلك الجماعه كلاً يبكي بطريقته، الى ان ألتقت عيوني بعيون اختي الكبرى بشرى وقد اصبحت كجنازةً تمشي وهي تغرس نفسها في زاويةً بارده. تحاملت على نفسي وذهبت أليها فصرت اكثر قدرة على رؤية عينيها وفيهما كل اللوعه والحزن التي في الدنيا. كانت قرة عين أبيها وسلوة خاطره. وضيفه الذي انتضره عشرين سنه حتى اذ اتى أسماها "بشرى". جسلت الى جنبها، واحتضنت جسدها الصغير المحطم وضميتها عسى ان تجد ولو واحد في المليار من ما فقدته وفقدناه جميعاً. وبحثت بعيني عن اختي الصغيره سهام، ولم اجدها، ومرة اخرى، الحج احمد الانسي، ذلك الاب الرائع الذي طالما حملنا جميعاً على كتفه منذ مولدنا ابتداء ببشرى وحتى سهام، مرةً اخرى اراه واقفاً فوق رأسي وسهام في يده كالعصفور الصغير المبلول في ليلةً شديدة البرد. فرمت نفسها في حضني. وذهب الحاج احمد ليعتني بالاخرين كعادته التي افنى فيها عمره هذا الرجل الكريم والعظيم. ذهب بعد ان سلمني عين المرحوم الاخرى ومهجة قلبه الصغيره.

بكيت مع البنتين ما قدرني الله، ثم تذكرت والدي حين قال لي "هذا سبب الخطيه" ولا اعلم لماذا تذكرت! لكن تلك الجمله التي هزت كياني لأسبوعين كامله حينها، اتت بتأثيراً عكسي الان. جعلتني استجمع قواي واكف عن البكاء. بدأت أهدأ الحماماتين المفجوعتين في اغلى من في الارض وبكل قوه وثقه سبحان الله. والاكيد اني لا املك تلك القوه والثقه، على الاقل ليس بعد مرور ساعتين من فقدان والدي وسندي ورأس مالي وسلاحي الاعظم في هذه الدنيا القبيحه بدونه، الا ان تلك القوه والثقه والدفء كانت جزء مخزون تلقيته يوم قال لي تلك العباره وكأنه رحمه الله تعمد ذلك وترك لي تلك الطاقه العظيمه لتعينني في هذا الموقف العظيم، وكأنه كان يعلم رحمه الله أني سأحتضن حبيبتاه حين ينزل أمر الله، وكأني عرفت بأنه آمن ألي أن أرعا أبنتيه في هذا الأمر الجبل، فما كان مني إلا أن أبلع كل ألآمي ؤأستجمع قواي لأقوم على ما أئتمنني أعز الرجال وأكرمهم. هدأت سهام، ونامت المسكينه او انها اغمضت عينيها لتستريح قليلاً لا ادري حقاً، وهدأت بشرى من البكاء الشديد الا ان دموعها لم تكف ابداً سبحان الله وكأنها سحابةً محمله أبت الا أن تستمر في صب حمولتها حتى بعد توقف العاصفه. ولن أنسا ما حييت ذلك الوجه الجامد الذي يظن من يراه أنه مصنوعاً من رخام، وتلك الدموع المنهمره، كعيناً فجرها الله في الصخر. وظلت كذلك لساعات طويله بدت كأنها الدهر، لم يقطعها الا رحمة الله بالأغماء من شدة الحزن والأعياء.


خلال ذلك الوقت الذي لا اعلم كم هو بالظبط، لم يكف تلفوني عن الرنين، ولم اجب احداً على الاطلاق الا مكالمه واحده، ولم اكن لأختار فوالله لم اكن قادراً على تمييز الوجوه فما بالكم بالارقام في شاشة تلفون! اجبت تلك المكالمه لأجد المتصل هو الوالد "العميد مجاهد ابوشوارب" رحمه الله. والذي وجدت في صوتهِ من الالم ما دفعني للعوده للبكاء مرةً ثانيه بعد ان اقفلت السماعه.


مكامله واحده اخرى اجبتها لمعرفتي من المتصل، كانت من زوجتي خلود، والتي كانت بالفعل، من اقرب الناس لقلب والدي رحمة الله عليه، احبها وكأنها ثالثة بشرى وسهام، واحبته كأبيها بصدق. حاولت أن تبدو متماسكه وقويه فهي أعلم الناس بحبي لوالدي رحمة الله عليه، وأعلم الناس بحالتي حين أفقده، وأعلم الناس بحزني الذي لا يفارقني يوماً واحداً منذ فراقه رحمة الله عليه. حاولت أن تكون متماسكه، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك، فما كان منها إلا أن أنهت المكالمه.


لا اعلم ما فعله الاخرين، فمن ذكرت هم من شاركوني الموقف في تلك اللحظه بالفعل. وتلكما الحمامتين هما الاهم بيننا جميعاً والاقرب والاحب الى قلبي من محبة ابيهم اولاً ومن محبتهن لأبيهن ثانياً ولمكانتهن عندي والله اعلم وشاهداً بذلك. ولم اعزي امي وعمتي واخوتي الا حين وصلنا البيت تقريباً لأنني في الحقيقه لا اتذكر اطلاقاً متى!


ما خفف علينا المصاب، هو تفاعل كل العاملين في المستشفى اولاً ومن ثم تلك الجموع التي حضرت في مصر وحضرت الى مصر ومن ثم الدفن والعزاء. ولكن الاهم هم اولئك العاملين في المستشفى وخصوصاً طاقم التمريض ومن بعده الاطباء فقد عاشوا معنا شهراً كاملاً، ومن قبله اسبوعين لم اتطرق أليها فليست ذا صله مباشره بموت المرحوم. المهم انهم بكوه كما بكيناه وبكل صدق ومحبه واحترام.


حين كانت تأتي والدي رحمة الله عليه نوبات الحمى الشديده بسبب الملاريا، كان يدخل في غيبوبة الحمى المعروفت. وكان يهذي حين يدخل في تلك الغيبوبه شأنه شأن كل مريض يدخل في غيبوبه بسبب الحمى الشديده. الا ان المختلف هو ان هذيانه كان تلاوةً لآيات الله بصوت واضح وتلاوه مرتبه وصحيحه تُقص من بعده بالمصحف ان شأت. وكان ذلك حاله طوال اسبوعين من الصراع مع الملاريا. ولذلك احبه العاملين دون ان يعرفوه، وكان التمريض يخدمونه كما تخدم الأبنه الطائعه والدها. ووالله انه كان يدعي لهم من كل قلبه. وقال "والله لا يُعرضن على جهنم ابداً" وسأله احد الزوار الذي كان حاضراً "حتى لو هن يهوديات"، فرد والدي "رحمة الله مشي للمسلمين وحدهم، ومن يرحم الناس لا يمكن الا ان يدخل في رحمة الله. ماحد اكرم واوسع وارحم من الله سبحانه وتعالى ابدا"
وفي مره طلب مني اكافئ بعض الممرضات، ودخل في غيبوبة الحمى مره ثانيه، وبعد ان اكملن الممرضات العنايه به وهو لم يفق بعد، حاولت ان اعطي احداهن بعض المال كما امرني والدي رحمه الله. ووالله العظيم انهن انزعجن لذلك لدرجة الرغبه بضربي، وبكت احداهن وهي تقول لي بعتاب "يا اخي خاف ربنا، عايز تحرمنا الاجر في الراجل المبروك ده" ورفضنها تماماً.

وجب في هذه الظروف أن أذكر أن المناضل أحمد زيد الرضي رحمه الله، توفي وجروحه التي أُصيب بها في ثورة سبتمبر المجيده عام ١٩٦٢ مازالت تتقيح من وقتاً لاخر، وعظامه التي تهشمت بفعل الرصاص والألغام بعضها لم يُجبر ابداً وعظام جمجمته لم تُعوض الى حين مماته. وطوال ٤٢ عاماً عاشها بعد الثوره، لم يتبجح او يغالي بنضاله على أحد، ولم يذكر عدوه الا بأنه كان عدواً شجاعاً وحكيماً، وبأنه لم يكن عدو ولكنه كان اخاً ظالماً أمتهن مذلة الناس فوجب القيام عليه لأن العزةُ لله وحده. ورفض رفضاً قاطعاً ان يكتب مذكراته قائلاً بأنهم فعلوا ما فعلوا بنيةً صادقه لله وللوطن، وليس ليكتبوا كتاباً يتبجحوا بهِ على من مات ويمنّوا بهِ على من عاش! ولم يصبه غرور المنتصر ولا لحظةً واحده وهو صاحب أمجاد حقيقيه في كل مواقعه ضد الملكيين وهو شخصياً أول من كسر حصار السبعين يوماً. وما ان انتهت تلك الثوره، حتى زوج اخته الصغرى لرجلاً فقيراً من آل المتوكل ولو كانت بشرى وقتها قد ولدت وبلغت عمر الزواج لكانت من نصيب ذلك الرجل. فهل في ذلك الأمر عبره، ام انها صدفه عابره تمر علينا مرور الكرام على الحمقى؟ الله وحده أعلم.

حين تم تجهيز جثمانه الطاهر للعوده الى اليمن، تم غسله وتكفينه، وقبل أن يُقفل الصندوق قامت بشرىٰ بسكب قارورة من طيب العود داخل الصندوق. كان ذلك صباح اليوم التالي لوفاته. وبسبب جدول الطيران لم نتمكن من العوده الا في اليوم الخامس لوفاته رحمة الله عليه. وفي ذلك الصباح المحدد للقيام بدفن جثمانه الطاهر، أجتمع كبار القوم عند الصندوق في الديوان في البيت، وكان الجدال حول دفنه بالصندوق. كان خوف معظمهم من أن يكون قد أصاب جثمانه بعض التغيير لمضي ما يقارب الخمسة أيام على وفاته. دخلت وهم واقفين وجالسين وكأن على رؤوسهم الطير، وعرفت على الفور ما في الأمر، فتكلمت وفي صوتي نبره واضحه أنني لن أقبل الجدال. قلت لهم "أبي عيقتبر بدون الصندوق" وهنا خرج الجميع عن صمته دفعة واحده، منهم من بدأ يصيح ويتوعد غاضباً ومنهم المخاطب ومنهم المتعاطف. وأنا على موقفي وقد قطعت العهد بأنه سيدفن بدون الصندوق مهما كلف الأمر، فقد كنت جليس أبي وسيره، وكنت أعرف كم كان يألم حين يرى احد أحبائه يدفن بالصندوق أو بجنازه رسميه، ووصاني أكثر من مره قبل سنوات من موته بأن لا يكون ذلك مصيره اذا مات، وكمت عاقداً العزم على تنفيذ تلك الوصيه مهما حدث. حين أحتدم الأمر ووصل ذروته، تكلم عارف وقال "نفتح الصندوق هنا الان، واذا وجدنا الأمور طيبه فسيتم دفنه بدون الصندوق، واذا وجدنا ما يزعجنا فسيتم دفنه بالصندوق" وألتفت نحوي حين قال عبارته الأخيره، وكان فيها من المنطق ما جعلني ألتزم الصمت. أخذنا مفتاح المسامير وبدأ بفتحها من جهه وأنا من الجهه الأخرى، وخلال ذلك بكا كل الحضور وخرج معظمهم من الديوان هارباً الى الخارج. أنتهينا معاً من فتح كل المسامير، وألتقت عيوننا الحزينه والمتوجسه قبل ان نقول بسم الله ونرفع غطاء الصندوق، والذي ما أن رفعناه حتى فاحت رائحة طيب العود الذي صبته أختي بشرى في القاهره فملأت البيت، ولا شيء غيرها. وكانت لحظه عظيمه أخرى أنهمرت فيها دموع الجميع كالمطر ولكنها كانت مختلطه بأبتسامة أرتياح، وأتذكر على وجه الخصوص، دموع وضحكات الوالد الشيخ عبدالله بن علي الرضي وهو يدخل الى الصندوق بكامل جسده ليحتضن جسد والدي ويصيح "هو مبروك هو رجال مبروك الله اكبر هو مبروك" وقد كان اكثرنا قلقاً، وكان من الرجال القريبين الذين من جيل المرحوم.

لن أنسى رؤية أخينا الأكبر الشيخ محمد مشلي الرضي وهو في تلك الحاله المؤلمه من الأنكسار والوهن التي ألزمته المستشفى ومنعته من حضور جنازتك وأنت أحب الناس أليه.. لن أنسى حالة الحزن الشديد التي كان عليها الوالد علي مقصع، والوالد عبدالملك زباره، والوالد عباس المتوكل، هؤلاء على وجه الخصوص الذين كانوا يحضرون العزاء يومياً وهم محمولين على الأكتاف لا يقوون المشي من شدة الحزن. لن أنسى الوالد عبدالله بن علي ناشر الأحمر الذي أُصيب بجلطه حين رأىٰ والدي وهو في العنايه، وكان يدفع الأطباء الذين هبوا لنجدته ويصيح فيهم "ما عليكم مني، انتبهوا لأحمد زيد". لن أنسى الحشرجه التي سمعتها في صوت الوالد العميد مجاهد أبوشوارب وهو الرجل الشديد الذي لا يهاب شيء ولا يلين لشيء لدرجة انه توقف عن الكلام وأقفل الخط. لن أنسى الألوف التي غطت أرضية مطار صنعاء مستقبلين، ولا تلك الألوف المؤلفه التي حضرت لدفنه والتي أضطررنا بسببها للصلاه عليه أربع مرات، وقبلها مره في مصر. لن أنسى مئات اذا لم تكن ألآف الوجوه الباكيه التي أعرف بعضها، ولا أعرف معظمها. لن أنسى الدعوات الصادقه له التي أسمعها كل يوم حتى بعد مرور عشر سنوات على وفاته.


الليله تمر عشر سنوات على رحيلك يا أبي. عشر سنوات على رحيلك يا أعز الرجال واشجعهم واصدقهم واكثرهم ايماناً وعدلاً وحباً لله وللوطن وللناس. الوطن والدنيا من بعدك مكاناً اقل شأناً بكثير مما كانت عليه بوجودك. او هي كذلك عندي. رحمة الله عليك يا سيدي وسندي ومثلي الاعلى، وكذلك هي لكل موتى الناس اجمعين المسلمين وغير المسلمين، فكما قلت انت، رحمة الله وسعت كل شيء وليست حكراً على احد، وقولك عندي يدحض اقوال كل علماء الدين في زمننا الرديء هذا.

بقي أن أبشرك يا أبي بأنه رغم كل ما يدور من المصائب والنكسات، أبشرك بأنني فزت بمعرفة وقرب خير رجال اليمن إن لم يكن خير رجال الأرض، جبران، أمين، محمد الشرفي، حامد غالب، وغيرهم، الى جانب صحبة بعض من الذين عرفتهم انت محمد عبدالله، ونشوان وتوفيق، وغيرهم. جميعهم أحبوك وجميعهم يبلغوك السلام أنت وأباءهم الذين في صحبتك في الفردوس الأعلى بأذن الله. وجميعنا نبشرك ونعاهدك بأننا على العهد باقون لا تلين لنا عزيمه ابداً مادام فينا عرقاً ينبض.

اسأل الله ان يلحقنا بك صالحين ان شاء الله. اذكروا الله وصلوا على رسوله. لا آله الا الله، محمداً رسول الله.